لطالما شكل الذهب ركيزة للاستقرار المالي ومخزنًا للقيمة عبر العصور، ومع تطور الاقتصاد العالمي وتغير أدوات الاستثمار، بات هذا السؤال يُطرح بإلحاح: هل الاستثمار في الذهب ما زال مجديًا؟ هل يمكن الاعتماد عليه كملاذ آمن في عالم تتغير فيه المعايير الاقتصادية بسرعة غير مسبوقة؟
مع دخولنا عام 2025، تتزاحم الأسواق بالفرص والمخاطر: العملات الرقمية، الذكاء الاصطناعي، ارتفاع أسعار الفائدة، اضطرابات جيوسياسية… وفي خضم كل ذلك، لا يزال الذهب يتصدر المشهد في أذهان المستثمرين، لكن بعيون أكثر نقدية وتحليلية. إذن، هل الاستثمار في الذهب ما زال مجديًا؟ سنحاول في هذا المقال تحليل هذا السؤال من زواياه المتعددة، استنادًا إلى معطيات واقعية ومؤشرات اقتصادية حالية.
أولاً: الندرة الحقيقية والثبات التاريخي
الذهب لا يُستهلك كما يُستهلك النفط، بل يُخزن ويُحتفظ به عبر الأجيال. وعلى عكس الموارد القابلة للاستهلاك، يظل الذهب في دورة مستمرة من التدوير والاستخدام، مما يجعله أصلًا فريدًا في طبيعته.
مخزونه في العالم محدود بطبيعته الجيولوجية، وهذا الحد يُكسبه قيمة نادرة ويمنحه مناعة نسبية ضد الانهيارات المفاجئة التي قد تطال الأصول الأخرى. كما أن للذهب تاريخًا طويلًا كمخزن موثوق للثروة ووسيلة للتبادل، إذ استخدمته الحضارات الكبرى عبر العصور، من الفراعنة الذين زينوا به معابدهم ومقابرهم، إلى الإمبراطوريات الأوروبية، وصولًا إلى البنوك المركزية الحديثة التي لا تزال تحتفظ به كجزء أساسي من احتياطاتها النقدية.
1. مناعة ضد الانهيارات
- عند انهيار العملات أو الأصول الرقمية، يظل الذهب أصلًا ماديًا له قيمة فيزيائية.
- في الأزمات الكبرى (مثل أزمة 2008 أو كورونا)، شهد الذهب موجات صعود قوية.
2. أصل غير مرتبط بالاقتصاد الحقيقي
- على عكس الأسهم، لا يرتبط الذهب مباشرة بأرباح شركات أو أداء قطاعات معينة.
- هذا يجعله أداة تحوط ضد تقلبات السوق المالية أو الكوارث السياسية.
ثانيًا: هل الاستثمار في الذهب ما زال مجديًا في بيئة اقتصادية متغيرة؟

1. أسعار الفائدة المرتفعة وتأثيرها على الذهب
- الذهب لا يدرّ عوائد، على عكس الودائع البنكية أو السندات.
- في بيئة ترتفع فيها الفائدة، يُصبح الاحتفاظ بالذهب مكلفًا من ناحية الفرصة البديلة.
- مثال: في 2022–2024، ارتفعت الفائدة الأمريكية فوق 5%، ما ضغط على أسعار الذهب مؤقتًا.
2. الدولار القوي مقابل الذهب
العلاقة العكسية بين الدولار والذهب من الحقائق الراسخة في الأسواق المالية؛ فعندما يرتفع الدولار، يتراجع الذهب عادة، والعكس صحيح. هذه العلاقة تنبع من كون الذهب مسعرًا بالدولار عالميًا، مما يعني أن قوة الدولار تجعل شراء الذهب أكثر كلفة لحائزي العملات الأخرى، فينخفض الطلب عليه.
وفي ظل سياسات التشديد النقدي التي اتبعتها الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة، من رفع أسعار الفائدة وتقليص السيولة، حافظ الدولار على قوته النسبية، ما شكّل ضغطًا إضافيًا على أسعار الذهب وأعاق صعوده رغم الظروف الاقتصادية العالمية التي عادةً ما تعزز الإقبال عليه كمَلاذ آمن.
3. دخول منافسين جدد: العملات الرقمية والأصول البديلة
- يرى البعض أن بيتكوين تقدم خصائص مشابهة للذهب (الندرة، اللامركزية).
- رغم ذلك، لا تزال العملات الرقمية تعاني من تقلبات حادة وقضايا تنظيمية تمنعها من أن تحل مكان الذهب كليًا.
ثالثًا: متى يكون الذهب استثمارًا حكيمًا؟
1. أثناء التضخم المفرط
- عندما ترتفع الأسعار وتتآكل القوة الشرائية، يلجأ الأفراد والمؤسسات إلى الذهب كحماية.
- مثال: في السبعينيات، تضاعفت أسعار الذهب 10 أضعاف بسبب التضخم الأمريكي.
2. في فترات التوترات الجيوسياسية
عند اندلاع الحروب أو الأزمات العالمية، يتجه المستثمرون تقليديًا نحو الذهب باعتباره ملاذًا آمنًا يحمي الثروات من التقلبات والمخاطر. فالذهب لا يرتبط بعملة أو دولة معينة، مما يجعله خيارًا مفضّلًا في أوقات عدم اليقين الجيوسياسي.
وفي الآونة الأخيرة، ساهمت عدة أحداث كبرى في تعزيز هذا التوجّه، وعلى رأسها الصراع الروسي الأوكراني الذي أعاد التوتر إلى قلب أوروبا، إلى جانب الاضطرابات المتزايدة في منطقة الشرق الأوسط. هذه التطورات رفعت منسوب القلق في الأسواق العالمية، ودعمت الطلب على الذهب، مما ساهم في صعود أسعاره خلال الفترات الماضية.
3. كجزء من استراتيجية تنويع طويلة الأجل
الخبراء في مجال الاستثمار ينصحون عادةً بتخصيص 5-15% من المحفظة الاستثمارية للذهب. هذا التوازن يتيح للمستثمرين حماية محفظتهم من تقلبات الأسواق المالية الأخرى، مثل الأسهم والسندات، دون التضحية بالعائد الكلي على المدى الطويل. فالذهب يعمل كأداة تنويع فعّالة، حيث يوفر استقرارًا نسبيًا في أوقات الأزمات أو التضخم.
رابعًا: هل الاستثمار في الذهب ما زال مجديًا كمكون في محفظتك؟

1. مقارنة مع الأسهم والعقارات والعملات
الأصل | العائد المحتمل | المخاطر | السيولة | الحماية من التضخم |
الذهب | متوسط | منخفض إلى متوسط | عالية | عالية |
الأسهم | مرتفع | مرتفع | عالية | متوسطة إلى عالية |
العقارات | متوسط إلى مرتفع | متوسط | منخفضة | متوسطة |
العملات الرقمية | مرتفع جدًا | مرتفع جدًا | متوسطة إلى عالية | غير مستقرة |
2. أداء الذهب في الأزمات
- في أزمة كورونا 2020، ارتفع الذهب بنسبة 25% في أقل من 6 أشهر.
- في أزمة البنوك الأمريكية 2023، عاد الذهب للاقتراب من حاجز 2000 دولار.
خامسًا: هل الاستثمار في الذهب ما زال مجديًا على المدى الطويل؟
1. التحليل الفني والتاريخي للأسعار
- منذ عام 2000، ارتفع الذهب من حوالي 270 دولارًا إلى أكثر من 2000 دولار للأوقية.
- هذا يعني متوسط نمو سنوي يزيد عن 8%، دون احتساب الفترات التي كان فيها الذهب راكدًا.
2. توجهات البنوك المركزية
- البنوك المركزية حول العالم تشتري الذهب بكثافة منذ عام 2010.
- الصين وروسيا والهند من أكبر المشترين، لتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي.
3. التوقعات المستقبلية
- بعض التقديرات تشير إلى إمكانية وصول الذهب إلى 2500 دولار خلال السنوات المقبلة، خاصة إذا استمرت التوترات الدولية.
- بينما تتوقع بعض المؤسسات اعتدال السعر إذا نجحت البنوك المركزية في احتواء التضخم.
سادسًا: الذهب كأداة لحماية الثروة في الدول النامية

1. ضعف العملات المحلية يزيد من أهمية الذهب
- في العديد من الدول النامية، تتدهور قيمة العملة المحلية باستمرار بسبب التضخم، الديون، أو الأزمات السياسية.
- الذهب يُستخدم كوسيلة لتخزين القيمة عندما تفقد العملة المحلية قوتها الشرائية بسرعة.
2. تزايد الوعي بين الأفراد
- خلال العقد الأخير، بدأ الأفراد في دول مثل تركيا، مصر، ولبنان يتجهون إلى شراء الذهب لحماية مدخراتهم.
- في بعض الحالات، أصبحت السبائك والمجوهرات أكثر تفضيلًا من الحسابات البنكية.
3. تحديات الاستثمار في الذهب في هذه الدول
- ارتفاع الضرائب والرسوم الجمركية على واردات الذهب.
- صعوبة الحصول على الذهب النقي وعدم وجود أسواق شفافة في بعض المناطق.
4. الفرص: رقمنة الوصول إلى الذهب
- تطبيقات ومحافظ رقمية جديدة (مثل “ذهب رقمي”) تتيح للأفراد شراء أجزاء من غرام ذهب بسهولة.
- تسهم هذه الابتكارات في دمقرطة الوصول إلى الذهب كأداة استثمارية.
خاتمة: هل الاستثمار في الذهب ما زال مجديًا؟ نعم… ولكن بشروط
في نهاية المطاف، لا يمكن تقديم إجابة واحدة تناسب الجميع. الذهب ما زال أصلًا مهمًا وذو قيمة، لكن المجدية تعتمد على الهدف الاستثماري، ومدى التنويع، وسلوك السوق العالمي.
إذًا، هل الاستثمار في الذهب ما زال مجديًا؟ نعم، بشرط أن يُستخدم كأداة حماية وتنويع لا كمصدر ربح سريع. وفي عالم تزداد فيه الأزمات تعقيدًا، يبدو أن الذهب سيظل حاضرًا على طاولة الاستثمار، حتى وإن تعددت المنافسات.